فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (15):

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ به وَأَجْمَعُواْ} أي عزموا عزمًا مصممًا على {أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} قيل: هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن، وقيل: هو بين مصر ومدين، وقيل: بنفس أرض الأردن، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب لما محذوف إيذانًا بظهوره وإشعارًا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها، وقيل: لا حذف والجواب أوحينا، والواو زائدة وليس بشيء.
قال وهب. وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا: أما تشتاف أن تخرج معنا إلى مواشينا فنتصيد ونستبق؟ فقال عليه السلام: بلى قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، فقال عليه السلام: أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا نبي؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لا حزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاءًا شديدًا فأخذخ روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الاحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوي عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له: اتق الله تعالى فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال: يا إخواتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به؟ قالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الاسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه ردوا على قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخواتاه أتدعوني وحيدًا؟ قالوا: أدع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك.
وقيل: جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها.
وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقى في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف لما خرج مع ءخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه أياه فأضاء له الجب، وعن الحسن أنه لما ألقى فيها عذب ماؤها وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له: إني أستوحش إذا ذهبت، فقال: إذا رمت شيئًا فقل: يا صريخ المستصرحين. ويا غوث المستغيثين. ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفتة الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم.
وقال محمد بن مسلم الطائفي: إنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال: يا شاهدًا غير غائب ويا قريبًا غير بعيدو يا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجًا مما أنا فيه، وقيل: كان يقول: يا إليه إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حللتي وصغر سني، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ألقى يوسف في الجب أتابه جبريل عليه السلام فقال: يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال: إخوتي قال: ولم؟ قال: لمودة أبي إياي حسدوني، قال: تريد الخروج من هاهنا؟ قال: ذاك إلى إله يعقوب، قال: قل: اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجًا ومخرجًا وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجًا ومخرجًا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألظوا بهؤلاء الكلمات فانهن دعاء المصطفين الاخيار» وروى غير ذلك، والروايات في كيفية إلفائه. وما قال. وما قيل له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه، والله تعالى أعلم {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرًا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له، وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالالهام؛ وقيل: بالالقاء في مبشرات المنام، وقال الضحاك. وقتادة: بارسال جبريل عليه السلام إليه والموحى إليه ما تضمنه قوله سبحانه: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} وهو بشارة له بالخلاص أيضًا أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بأنك يوسف لتباين حاليك: حالك هذا.
وحالك يومئذ بعلو شأنك كوبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم، وقيل: لبعد العهد المبدل للهيآت المغير للاشكال والأول أدخل في التسلية، أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} إلخ نزلت إلا في ذلك، وجوز أن يتعلق {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بالايحار على معنى أنا آنسناه بالوحي وازلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له.
وروي ذلك عن قتادة، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك. واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن. وسبع عشرة سنة عند ابن السائب وهو الذي يزعمه اليهود وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السلام لم يكن بالغًا الأربعين عند الايحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحى إلى بعضهم كيحيى. وعيسى عليهما السلام قبل ذلك بكثير.
وزعم بعضهم أن ضمير {إِلَيْهِ} يعود على يعقوب عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة.
وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} متعلق بأوحينا لا غير على ما قاله الزمخشري. ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضًا بقوله تعالى: {لننبئنهم} وأن يراد بانباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناءًا على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعطيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)}
{وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء} أي في ذلك الوقت. وهو كماقال الراغب من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاآن: المغرب. والعتمة.
وعن الحسن أنه قرأ عشيًا بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونًا وهو تصغير عشى وهو من زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ عشى بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفًا، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل: كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفًا صحيحًا ساكًا ثم حذفت بعد قلبها ألفًا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان؛ وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كان يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل: هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال: أوطأه عشوة أي أمرًا ملتبسًا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدًا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم عنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من العضيهة، وجوز أن يكون {عشاءًا} في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما جاءوا عشاء إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاءوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشار يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناءًا على ما روي أنه عليه السلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
وفي الكلام على ما في البحر حذف والتقدير {يَشْعُرُونَ وَجَاءوا أَبَاهُمْ} دون يوسف {عشاءًا} {عِشَاء يَبْكُونَ} أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن جزن لكنه يشبهه، وكثيرًا ما يفعل بعض الكذابين كذلك، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء ففجعلت تبكي فقالوا: يا أيا أمية أما تراها تبكي؟ا فقال: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءًا يبكون، وقال الأعمش: لا يصدق باك بعد إخوة يوسف، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجري في الغنم شيء؟ قالوا: لا قال: فما أصابكم وأين يوسف؟.

.تفسير الآية رقم (17):

{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ ؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)}
{قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روي عن السدى، أو في الرمي بالسهام كام قال الزجاج، أو في أعمال نتوزعها من شقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد الله إنا ذهبنا ننتضل وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها، وأجيب باملنع وثمرته التدرب في العدو لحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا؛ وبالجملة {نَسْتَبِقُ} عنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان عنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا} أي ما يتمتع به من الثياب والازواد وغيرهما {فَأَكَلَهُ الذئب} عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السلام عنده بمن باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لاسيما إذ لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا: إنا لم نقصر في محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا رأى منا وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام، والظاهر أنهم لم يريدوا إلا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضًا فما قيل: إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب {وَمَا أَنتَ ؤْمِنٍ لَّنَا} أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة {وَلَوْ كُنَّا} عندك وفي اعتقادك {صادقين} أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا، قيل: ولابد من هذا التأويل إذ لو كان المعنى {وَلَوْ كُنَّا صادقين} في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا: {وَمَا أَنتَ ؤْمِنٍ لَّنَا} في حال من الأحوال فتذكر وتأمل.